رحلة بحث شاقة عن قبر أم النبي محمد وأهالي قرية الأبواء يعجزون عن تحديد مكانه بدقة
على طريق الهجرة القديم بين مكة والمدينة تقع تلة جبلية شهيرة يتوسد قمتها قبر معروف طوال قرون، ظل المتعارف عليه بين الناس بأنه ترقد فيه السيدة آمنة بنت وهب أم النبي محمد عليه السلام.
وفي السنوات الأخيرة ثار جدل حول صحة مكان القبر، والأدلة الشرعية والتاريخية على وجوده، خاصة أن أهالي القرية كانوا يستهجنون ما يفعله الزوار الغرباء في هذا المكان من أفعال يرون أنها متناقضة مع صحيح الاسلام، خاصة أن أهالي القرية وبعض المتدينين ينفون وجود دليل على صحة نسبة هذا القبر للسيدة آمنة، خصوصا ان كتب السيرة القديمة والمراجع التاريخية تؤكد انها دفنت بين مجموعة قبور، بينما هذا القبر يقف لوحده في هذا المكان.
هذا الجدل انتهي سريعا بعد أن قررت تلك المجموعة حسم الأمر بازالة القبر. ومن هنا تبدأ قصة رحلة البحث عن قبر أم النبي، التي كان قد بدأها الكاتب الصحفي عمر المضواحي في العام 2001 حسب قوله لـ"العربية.نت".
بين الخوف و التردد يقف أهالي قرية الأبواء (180 كلم من المدينة المنورة) عند الحديث عن مرقد أم النبي صلى الله عليه وسلم، فهم لا يخالجهم أدنى شك بأن السيدة آمنة بنت وهب لفظت أنفاسها الأخيرة في مكان ما من قريتهم العتيقة, المعروفة حاليا بـ "الخريبة" نسبة لتعرضها لسيل جارف أحدث فيها خرابا, في طريق عودتها من يثرب (المدينة المنورة) الى مكة، لكنهم يتوقفون كثيرا أمام تحديد المكان الذي دفنت فيه بدقة, ويلوذون عادة بالسكوت المطبق على الإجابة عن هذا السؤال الحساس.
أفعال يستهجنها أهالي القرية على الزائرين
وتعرف الأبواء الواقعة على طريق الحاج القديم بأنها محط القاصدين لزيارة قبر أم النبي (إلى الشمال من مدخلها الترابي) ويلتزم كثير من أتباع المذهب الشيعي الجعفري إلى مداومة الحضور وزيارة القرية كونها, إلى جانب الضريح, مسقط رأس الإمام موسى الكاظم (128هجرية) حفيد سبط النبي عليه السلام. وكان الحجاج والزوار يفدون إليها عادة في المواسم الدينية, خصوصا القادمين من الهند والباكستان وإيران وغيرهم للزيارة وهم محملون بالبخور ودهن الطيب على أنواعه لسكبها فوق حجارته, كما يحرص بعضهم على صبغها باللون الأخضر, فيما يجلل آخرون ظهر الضريح بلفائف من القماش الأخضر تكريما لصاحبته, ومودة ليتيمها خاتم الأنبياء عليه السلام.
ويشتاط بعض الأهالي غضبا, وخاصة المتدينين, من عادات الزوار وتصرفاتهم في تعظيم القبور المنهي عنه في الإسلام. وكثيرا ما يدفعهم حنقهم الى الدخول في مشاجرات وتلاسن مع المغالين لمنعهم عن صرف أي شكل من التكريم للقبور مهما علا شأن ساكنها لما يرونه طريقا مفضيا الى "الشرك" بالله الواحد. وربما مهد تنامي هذا الشعور الطريق, عبر السنوات الماضية, الى إزالة القبر المشهور.
ويتذكر عمر المضواحي أن دليله إلى القرية راشد اليوبي "أبو سعد" كان بتحرج بشدة وهو يروي أخبارا عن أحوال الزوار، ومدى ما يلقاه أهالي القرية من عنت وجفاء عند نصحهم بأن ما يفعلونه عند القبر مخالف للسنة النبوية المطهرة, ومهددا لعقيدة الإيمان. يقول: " إنهم لا يستمعون إلى نصحنا ورغبتنا الصادقة في الخير لهم. وأشد ما نلقاه من حرج عندما يشيح الزوار بوجوههم المتمعرة سخطا علينا وهم يرددون: هل هذه ضيافتكم لنا يا أهل أم النبي ".
الرسول مر بين مجموعة قبور بالابواء
وبثقة واضحة يؤكد شيخ قرية الأبواء سالم المحمدي متحدثا إلى عمر المضواحي: "إن أم النبي عليه السلام دفنت في الأبواء. لكن القبر المشهور في أعلى الجبل لا يجوز نسبته اليها لكونه وحيدا في رأس جبل على عكس ما ذكرته كتب السير والتاريخ من أنها دفنت بين مقابر عدة". مشددا على أن "الثابت لنا أن الرسول عليه الصلاة والسلام مرَ بالأبواء مع نفر من أصحابه, ومرً بين مجموعة قبور ليقف على أحداها, قبل أن يخبر أصحابه بأنه قبر أمه آمنة بنت وهب".
سألته إن كان القبر المشهور مزعوما كما يؤكد فأين موقع القبر من القرية؟.. أجاب بعد لأي شديد: "هناك مقبرة قديمة تعرف بمقبرة (أم عثمان) وهي أقدم مقابر القرية تاريخيا, لكنني لا أستطيع التأكيد على أنها تضم رفات أم رسول الله عليه السلام".
رحلة طويلة الى مقبرة أم عثمان
عزمت على دليلي "أبو سعد" العارف بكل تفاصيل المنطقة,أن يأخذنا الى مقبرة أم عثمان. تردد طويلا قبل ان يوافق. كنا خلال سبع ساعات متواصلة, قطعنا فيها كل أرجاء وادي الأبواء أحد أكبر أودية الحجاز التهامية, ووقفنا مرارا على شواهد تمثل جزءا هاما من بدايات التاريخ الإسلامي, وآثارا لآبار قديمة, ومساجد عتيقة, لم يبق منها سوى بضعة أحجار مرصوفة تحدد مكانها القديم الذي ورد بشأنها أن النبي محمد صلى فيها, ويطلبها الزوار لنيل شرف الإقتداء وبركة الصلاة فيها.
كانت إطارات السيارة تخترق التخوم والكثبان الرملية بسرعة كبيرة مخلفة سحبا من الغبار والأتربة, على أمل أن نصل الى المكان قبيل غروب الشمس. كنت أستشف حرص دليلي على أن أتوه في هذه الفلاة الواسعة كي لا أعرف طريق العودة إليها أبدا مرة أخرى.. وقبل أن يتملكني اليأس بالوصول أشار "أبو سعد" بسبابة جافة وصوت متردد, الى مقبرة قديمة في بطن الوادي وهو يقول:" بين هذه القبور القديمة يوجد قبر السيدة آمنة بنت وهب أم النبي عليه السلام. مؤكدا أنه لا أحد بين جنبات هذه الحرات من يعرف الموقع بدقة".
لم يكن هناك ما يشير الى أن ما نراه مقبرة قديمة, لولا بقايا حجارة عبثت بها صروف الزمن والإهمال, متناثرة هنا وهناك فوق هذا الجزء المفتوح من الوادي. والمقبرة لا تتميز بشيء عن ما جاورها من فضاء رملي تحفه شجيرات شوكية, سوى أن أعشابها وحشائشها أكثر اخضرارا أو هكذا تبدوا للناظر.
وغني عن القول أنني فشلت تماما في الحصول عن إجابة لسبب تسمية المقبرة بأم عثمان, أو من تكون هذه المرأة الأكثر شهرة من أم النبي, وكل ما حاولت السؤال يمط المجيب شفتيه ويهز كتفيه, كناية عن جهله بالأمر برمته.
تاريخ من حجارة
تتعدد المناطق الأثرية في القرية خصوصا في جانبها الجنوبي باتجاه مكة عند ما يعرف بـ "ريع هرشا" وهو جبل مرتفع يقطع طريق الحاج القديم. وتتملك الدهشة كل من ينظر إليه كيف تمكن السكان القدماء بأدواتهم البسيطة من حفر طريق بعرض نحو 8 امتار في جبل بركاني صلد لتسليك طريق الحجاج, وزادوا عليه إنشاء جدار من الحجارة تعرف بالـ "رضم" رصت بعناية على جانبي الطريق تعلوها على إرتفاع نحو ستة أمتار تقريبا قشرة سميكة من الطين المخلوط بالتبن والحصى لحماية العابرين من تساقط الأحجار والأتربة فوق رؤوسهم.
ويؤكد "أبو سعد" كما يقول عمر المضواحي لـ"العربية.نت" أن ريع هرشا كان أصعب مرحلة في طريق الحاج القديم، وفي سفح الجبل المتجه الى الشمال يوجد المسجد الأبيض مقام بالقرب من المكان الذي يعتقد سكان القرية أن النبي عليه السلام صلى فيه.
الى الشمال من وادي الأبواء توجد منطقة تعرف بـ "العاصد" وهي مناخ اعتاد البدو الرحل على النزول فيه مع مواشيهم عند حلول الربيع وبالقرب منه تنتشر آبار قديمة, شحيحة الماء, أشهرها بئر " بن مبيريك" وعادة ما تتوفر الآبار على استراحات يجلس فيها المسافرون عبر طريق الحاج القديم للراحة والتزود بالماء أثناء تنقلهم بين مكة والمدينة.
المكان الذي بات فيه النبي في طريق هجرته
يضيف المضواحي: تركنا العاصد خلفنا, لنتجه الى موقع يقال له "تلعة أبو صريحة" وهو كما يؤكد الأهالي المكان الذي أناخ فيه النبي ركابه عند هجرته الى المدينة وبات فيه. وكالعادة لا يوجد ما يشير الى أهمية المكان وتاريخه, لكنه لازال محفوظا في صدور السكان يتناقلونه شفهيا جيلا بعد جيل.
ولا يغفل الناظر ثراء الحياة الفطرية في هذا المكان، فعلى غصون أشجار الطلح والسدر تشاهد أعشاش طائر يعرف محليا باسم "سويد أبا العنم", وهي مغزولة بشكل كروي بديع بالقش والريش, ولها فتحات الى الشرق بحيث لا يدخلها الهواء الساخن وما يحمله من الغبار حماية للبيض والأفراخ الصغيرة، ومن الطيور المشهورة أيضا في الأبواء "القماري" و"النغاري", و طائر "الصعو".
مسجدان صلى فيهما الرسول في الأبواء
في مرعى كثيف الحشائش والأشجار, خلف جبل صغير جلس شيخ قرية الأبواء سالم يوسف عطية أبو جلي المحمدي يحتسي القهوة وحيدا على أريكة مفروشة بجلد الضأن و أمامه وعاء مملوء بتمر معجون بالسمن البلدي وبدقيق حبوب الدخن, وهو يراقب عمل راع له يهش على قطعان الأغنام لتأوي إلى حظائرها قبل غروب الشمس, ووراءه برج عال تتزاحم أجنحة أسراب الحمام على فتحات أعشاشها المرتفعة.
وقص علينا الشيخ حكايات وروايات عن قريته القديمة, التي يسكنها نحو خمسة آلاف نسمة, معظمهم من قبيلة حرب من "بنو محمد" و"بني أيوب من البلادية" ومنهم قبيلة اليوبي والمحمدي والنعماني, والسادة. ويعمل اغلب السكان في الرعي والزراعة وتشتهر الأبواء بزراعة الطماطم والبامية والبطيخ وبعض المحاصيل الزراعية الأخرى كالقمح والخضروات.
وينقل المضواحي ما دار من حديث بينه وبين الشيخ المحمدي ورد فيه على لسان الأخير أن الأبواء تضم آثارا كثيرة, ومر بها الرسول عليه الصلاة والسلام وأصحابه مرارا, وفيها مسجدان ثبت أنه صلى فيها أحدهما في ريع هرشا, والآخر معروف بمسجد القرين الذي يقع في وسط القرية. كما ورد أنه إغتسل بها واهدي له حمار وحشي من أهل القرية.
وقال إنه قرأ في أمهات الكتب أن أول غزوة غزاها النبي في الإسلام كانت في الأبواء, بعد أثني عشر شهرا من مقدمه المدينة, وكانت في شهر صفر ولم يقاتل فيها ولم يلق كيدا. وأن النبي أقام بالأبواء بقية صفر وعاد في ربيع الأول، وكان لواؤه في هذه الغزوة أبيض اللون يحمله عمه حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه, وتم الصلح في مكان يقال له "شعيب جاروه" وهو مكان معروف بهذا الإسم حتى الآن.
وأشار الى أن الكتب القديمة ذكرت أن النبي عليه السلام بات في مكان يعرف حتى الآن بإسم "أم مريخة" وبعد ذلك ذهب الى "مزاح", ثم الى مكان يقال له "أم كشنة" وبعدها دخل البساتين, ومن ثم راح الى "أم البرك" في طريقه الى "المسيجيد" وهذا الطريق هو خط مسار الهجرة القديم.
آخر الشهود الأحياء بشأن مكان القبر
ولم يخف الشيخ سالم المحمدي شعوره بأن طريق الهجرة القديم يعاني من الإهمال وهو بحاجة الى إهتمام أكبر وترميم لما نقض منه وأندثر. وقال بحزن ظاهر: الأثار الموجودة في مدننا وقرانا تحتوي على كنوز أثرية كثيرة, وهي في إنتظار إهتمام الجهات الرسمية, خصوصا أن طريق الهجرة مليء بالآثار والمقتنيات الأثرية التي تحتاج الى رعاية لإستثمارها في التعريف بالتاريخ الاسلامي.
يستطرد عمر المضواحي: طوال شهور من البحث عن أشخاص يعرفون عين المكان الذي دفنت فيه ام النبي, لم أستطع الوصول الا لمعلومة من صديق عن رجل طاعن في السن يعيش مجاورا لبيت الله العتيق بمكة يعرف المكان كما يعرف تفاصيل خطوط يده, لكنه منعزل عن الناس, ولا يستقبل أحدا كونه عاجز عن الحركة. ولم تفلح محاولاتي بلقائه, واخشى أن يكون آخر الشهود الأحياء عن مكان قبر السيدة آمنة بنت وهب.
الأبواء في كتب السيرة
جاء في كتب السيرة أن ( في الأبواء قبر آمنة بنت وهب, أم النبي صلى الله عليه وسلم, وكان السبب في دفنها هناك أن عبدالله والد النبي محمد عليه السلام كان قد خرج الى المدينة يمتار تمرا, فمات بها, فكانت زوجته آمنة تخرج في كل عام الى المدينة تزور قبره. فلما أتى على رسول الله صلى الله عليه وسلم ست سنين, خرجت زائرة لقبره ومعها عبدالمطلب وأم أيمن حاضنة الرسول صلى الله عليه وسلم, فلما صارت بالأبواء منصرفة الى مكة, ماتت بها, ويقال أن أبا طالب زار أخواله بني النجار بالمدينة, وحمل معه آمنة أم رسول الله صلى الله عليه وسلم, فلما رجع منصرفا الى مكة ماتت آمنة بالأبواء).
وجاء في تعريف سيرة الصحابية أم أيمن حاضنة النبي عليه السلام وهي بركة بنت ثعلبة أنها ( هي التي كانت مع آمنة بنت وهب أم النبي صلى الله عليه وسلم حين ذهبت الى المدينة لزيارة بني النجار أخوال جده عبدالمطلب, ولما عادت الى مكة مرضت آمنة في الطريق, وتوفيت بالأبواء, فعادت أم أيمن بالنبي صلى الله عليه وسلم واصبحت حاضنته, وأوقفت نفسها لرعايته والعناية به, وغمرته بعطفها, كما غمره جده عبدالمطلب بحبه, وعوضه الله تعالى بحنان جده وأم أيمن عن حنان الوالدين, واغرم به عبدالمطلب غراما شديدا وكثيرا ما كان يوصي الحاضنة أم أيمن قائلا لها: يابركة, لا تغفلي عن ابني فإني وجدته مع غلمان قريبا من السدرة, وأن أهل الكتاب يزعمون أن إبني هذا نبي هذه الأمة. وبعد وفاة عبدالمطلب حزن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حزنا شديدا, تقول أم أيمن : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ يبكي خلف سرير عبدالمطلب).
وفي كتاب ( إنها فاطمة الزهراء) للدكتور محمد عبده يماني وزير الإعلام السعودي الأسبق أن السيدة آمنة بنت وهب أم الرسول صلى الله عليه وسلم توجهت مع إحدى القوافل عائدة الى مكة بعد زيارة قبر زوجها في المدينة.. (وهناك في الأبواء هبت عاصفة هوجاء أخرت مسيرة القافلة أياما, وتهاوت السيدة آمنة مريضة لا تقوى على السير, ومن ثم أسلمت الروح بين يدي ولدها الحبيب مودعة إياه بقولها: كل حي ميت, وكل جديد بال, وكل كبير يفنى. وودع الجثمان الطاهر في صعيد الأبواء, وأوحشت الصحراء كئيبة, وعاد الطفل الحبيب صلوات الله وسلامه عليه ملتاعا حزينا كسير الفؤاد).
وأورد المؤلف في مصنفه النادر قصة زيارة النبي صلى الله عليه وسلم لقبر أمه بعد أكثر من أربعين سنه من فقدها, تعتاده الذكرى فيستأذن ربه أن يزور قبر أمه فأذن له. وساق حديث شريف جاء فيه ( عن عبدالله بن مسعود قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم وخرجنا معه حتى أنتهينا الى المقابر فأمرنا فجلسنا, ثم تخطى القبور حتى إنتهى الى قبر منها فجلس إليه فناجاه طويلا ثم أرتفع صوته وانتحب باكيا فبكينا لبكاء رسول الله صلى الله عليه وسلم, ثم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل إلينا فتلقاه عمر بن الخطاب رضي الله عنه, فقال: ما لذي أبكاك يارسول الله فقد أبكانا وأفزعنا؟.. فأخذ بيد عمر ثم أومأ إلينا فقال: أفزعكم بكائي؟ فقلنا: نعم يارسول الله. فقال ذلك مرتين أو ثلاثا, ثم قال: إن القبر الذي رأيتموني أناجيه قبر أمي آمنة بنت وهب, وإني أستأذنت ربي في زيارتها فأذن لي).