البيت العتيق:المؤكد أن الكعبة المشرفة هي أول بيت وضع للناس، كما جاء في محكم التنزيل: ((إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ)) [آل عمران:96]، وإن اختلف المؤرخون في أول من بناها، (على أن معظم الفترة الأولى من قصة الكعبة قد غاب عن واعية التاريخ أكثر تفاصيلها، ولكن المعروف والذي تجمع عليه كل المراجع أنها بنيت قبل آدم عليه السلام، وأن الملائكة هم الذين قاموا بتشييد أول بناء لها، وقد شيدوه تحت مركز العرش بعد البيت المعمور، ويقول المحققون: أنه إذا ثبتت قصة البناء قبل الخليل عليه السلام فهو بناء تأسيس فقط)( ).
(فالكعبة المشرفة بيت الله جل جلاله، وقد نسبه الله سبحانه وتعالى إلى نفسه، إذ قال: ((وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ)) [البقرة:125].
(ونسب الله عز وجل البيت إلى نفسه إعلاماً لخلقه بما له من قداسة وحرمة وجلال، وتكريماً له وتشريفاً، حتى يكون في الأرض للناس جميعاً يلوذون به، ويثوبون إليه، ويجدون فيه أمن النفس من الخوف والجوع فيعبدون الله في رحابه وعبادة صحيحة).( )
والكعبة المعظمة هي هذا البناء الشامخ الجليل الذي يقع في قلب الحرم المكي الشريف، وهي قبلة المسلمين، ومحط أنظارهم، ويلتفت الناس حولها في الصلوات الخمس، ويطوفون بها في الليل والنهار لا ينقطع طوافهم إلا في الصلوات الخمس، عندها يقف الجميع أمامها وفي اتجاهها، في خشوع وتبتل يؤدون الصلاة المكتوبة عليهم، ولا تهمد الحركة حولها وأمامها أبداً.
(وأما تسمية البيت المعظم (الكعبة) فقد ورد في ذلك عدة روايات منها ما ذكره الحافظ البغوي في تفسيره عن مجاهد أنه قال: [[سميت كعبة لتربيعها]]، والعرب تسمي كل بيت مربع كعبة، وقال مقاتل: [[سميت كعبة لانفرادها من البناء]]، وقيل سميت كعبة لارتفاعها من الأرض، وأصلها من الخروج والارتفاع، وقال ابن الأثير في النهاية، (كل شيء علا وارتفع فهو كعب، ومنه سميت الكعبة للبيت الحرام، وقيل سميت به لتكعيبها، أي تربيعها).( )
قداسة الكعبة:
ومنذ أن بني بيت الله الحرام( ) على أيدي الرسولين الكريمين إبراهيم وإسماعيل كان مقصوداً من حجاجه، وإنه كان قد دخل إلى عقيدة التوحيد، من الشرك والوثنية ما دخل فيها، ومع هذا بقي البيت الحرام مقدساً لدى المؤمنين والمشركين والوثنيين يحجون إليه، وكانت قداسة الكعبة لذاتها، ولهذا كان الإجماع منعقداً على تقديسها، من قبل العرب الذين اختلفوا في معتقداتهم وآلهتهم دون أن يحملهم هذا الاختلاف على قداسة الكعبة).
(لقد اختلفوا في الشعائر والفرائض لاختلاف آلهتهم، ولم يفرض أتباع أحد من هذه الآلهة على أتباع الإله الآخر فرائضه وشعائره، بل تمسك كل فريق بفرائضه وشعائره وصنمه، ولم يقبل من غيره أي فريضة يفرضها، أو شعيرة يحمله عليها).
(أما شعائر الكعبة وفرائضها فهم راضون بها ويؤدونها حسب ما يمليه سدنتها وحمسها).
(وتفرد الكعبة بهذه القداسة يثبت أنها بيت الله الحرام بحق، وما عداه ليس ببيت الله، وإنما هو بيت صنم، ولهذا لم يكن لبيت من القداسة لدى العرب غير الكعبة وحدها).
(وظل البيت محجة للناس إلى أن أكرم الله الوجود الإنساني بالرسول الأعظم محمد خاتم الرسل صلى الله عليه وسلم، فطهر بيت الله من الأوثان والأصنام، وعبادتهما، ففي السنة العاشرة للهجرة تمت طهارة البيت والحج إليه من كل ضروب الوثنية وعادتها، فلم يعد منذ تلك السنة يحج إلى البيت كافر، أو يطوف عريان، وعادت إلى بيت الله قداسته التامة الشاملة، وصار بعد ذلك أنى كانوا من مشارق الأرض ومغاربها( ).
ضفة الكعبة:
(وهي بناء مكعب مجوف من الداخل، وقد جعل إبراهيم الخليل عليه السلام طولها تسعة أذرع، وجعل لها بابين ملاصقين للأرض أحدهما من الشرق والثاني من الغرب، ولم يجعل لها سقفاً، ولا وضع على البابين أبواباً تفتح وتغلق، وحفر في داخلها بئراً يكون خزانة لهداياها( )، أما داخل الكعبة فقد جاء وصفها في (تاريخ الكعبة المعظمة)( )، وقد حدث لها ترميم في سقفها الأسفل، وتمت إزالة سقفها الأعلى، وعمل سقف جديد، مع تغيير الأعواد والأخشاب التالفة فيه، وأنشئت على الجدار بين السقفين ميدة تحيط بالجدران جميعاً بحيث لا يظهر من الميدة شيء زائد، كما رممت الكسوة الرخامية التي على الجدران من الداخل( )، (وهي من الداخل تقوم على ثلاثة أعمدة ضخمة، وفي الناحية الشمالية يقع باب التوبة الذي يتم منه الصعود إلى سطح الكعبة، ويغطي سقف الكعبة من الداخل وجانباً من جدرانها ستاير من الحرير الأحمر عيها مربعات مكتوب فيها: (الله جل جلاله) وفي الناحية المقابلة لباب الدخول محراب وبقية الجدران مغطاة بالرخام المجزع، وبالكعبة صندوق ضخم تحفظ فيه بعض مقتنياتها، وقد تدلت من السقف قناديل ضخمة من الذهب وقد رصعت بالجواهر واللآلئ)( )
خصائص الكعبة:
ومن أهم خصائص البيت الحرام أن الله تعالى حفظه من كيد الكائدين، وتخريب المخربين، وظل البيت شامخاً طوال أربعة آلاف سنة منذ أن بناه إبراهيم عليه السلام وإلى ما شاء الله، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، سيظل البيت قائماً للطائفين والركع السجود.
وقد مرت محاولات لهدم الكعبة، أعظمها محاولة أبرهة الأشرم ملك اليمن، وكان تابعاً لملك الحبشة، فخرج بجيش جرار من اليمن ومن الحبشة، ومع فيل عظيم، فلما بلغ وادي محسر الواقع بين مزدلفة ومنى، ولم يبق بينه وبين مكة إلا مسافة عشرة كيلو
مترات عبأ جيشه وقدم الفيل، فكانوا إذا وجهوه إلى جهة الحرم وقف مكانه، ولزم موضعه، ولم يتحرك منه، فإذا وجهوه إلى جهة اليمن هرول ومشى مسرعاً، فأرسل الله عليهم طيراً أبابيل سوداء، وفصل الله سبحانه وتعالى في سورة الفيل: ((أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ)) [الفيل:1] * ((أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ)) [الفيل:2] * ((وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ)) [الفيل:3] * ((تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ)) [الفيل:4] * ((فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ)) [الفيل:5].( )
خدمة الكعبة:
(خدمة الكعبة تسمي بالحجابة، وخدام الكعبة يسمون بسدنة الكعبة، وهم جماعة مخصصون يتوارثونها بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى الآن من قوله صلى الله عليه وسلم: {خذوها خالدة تالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم}، وهم المعروفون ببيت بني شيبة)( )، وقد سلم الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم مفتاح الكعبة لعثمان بن طلحة، وشيبة بن عثمان بن طلحة بعد فتح مكة المكرمة، وقال قولته، ولا زالت الحجابة في نسل شيبة بن عثمان حتى اليوم( )، (وكان أول من قام بخدمة الكعبة الخليل إبراهيم عليه السلام، ومنه آلت خدمة الكعبة إلى ولده إسماعيل عليه السلام، وبعد إسماعيل صارت لأولاده إلى أن اغتصبها منهم أخوالهم جرهم، ثم استولت عليها خزاعة عنوة، ومكثت فيهم عدة قرون، إلى أن آل أمر مكة والكعبة إلى قصي القرشي وهو الجد الرابع للنبي صلى الله عليه وسلم، ثم أسلم قصي أمور السدانة إلى ولده الأكبر عبد الدار، فظلت كذلك جاهلية وإسلاماً، إلى أن استقر بها المقام عند شيبة بن عثمان بن طلحة وذريته من بعده( ).
مقاس الكعبة:
وتفاوت المؤرخون في ذكر مقاس الكعبة، وهو اختلاف ناشئ من اختلاف الأذرع، وما بين ذراع اليد، وذراع الحديد، وهما يتفاوتان، فقد جاء في تاريخ الكعبة المعظمة أن ذراع اليد يتراوح ما بين (46) إلى (50)سم، وذراع الحديد (56.5) سم( )، بينما ذكر أخيراً أن ذراع اليد (48)سم( )، وقد ذكر إبراهيم رفعت باشا في كتابه (مرآة الحرمين) أنه ذرع الكعبة المشرفة بالمتر، فقال: ارتفاعها (15) متراً، وطول ضلعهما الشمالي (9.92) أمتار، والغربي (12.15) متراً، والجنوبي (10.25) أمتار، والشرقي (11.88) متراً، ولم يوافق مؤرخ تاريخ الكعبة المعظمة على الارتفاع، إذ أكد أن: (الظاهر أن إبراهيم رفعت لم يذرع ارتفاع الكعبة فعلاً، وإنما قدر ارتفاعها تقديراً)( ).
وقد قام مركز أبحاث الحج في جامعة أم القرى بمكة المكرمة بدراسة الحركة في المطاف، ووضع من خلالها مخططاً تفصيلياً للكعبة المشرفة، وحجر إسماعيل، بيانها كالتالي بالنسبة للكعبة:
1- من الركن الأسود إلى الركن الشامي 11.68 متراً وفيه باب الكعبة.
2- من الركن اليماني إلى الركن الغربي 12.04 متراً.
3- من الركن الأسود إلى الركن اليماني 10.18 أمتار.
4- من الركن الشامي إلى الركن الغربي 9.90 أمتار.
أما الارتفاع، فقد كان حسب بناء إبراهيم عليه السلام (4.32) أمتار، وبناء قريش (8.64) أمتار، وفي بناء عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما (12.95) متراً، وحافظ الخليفة عبد الملك بن مروان على هذا الارتفاع( )، في بناء الحجاج، وبالتأكيد فإن الارتفاع الذي ذكره إبراهيم رفعت باشا غير دقيق، وقد ذكر نفس الارتفاع (15) متراً في الكعبة المشرفة، ويبدو أنه نقل عن مرآة الحرمين.
بناء الكعبة:
وقد بنيت الكعبة المعظمة اثنتي عشرة مرة( ):
1- بناء الملائكة.
2- بناء آدم عليه السلام.
3- بناء شيث.
4- بناء إبراهيم عليه السلام.
5- بناء العمالقة.
6- بناء جرهم.
7- بناء قصي.
8- بناء عبد المطلب.
9- بناء قريش.
10- بناء عبد الله بن الزبير.
11- بناء الحجاج.
12- بناء السلطان مراد خان العثماني( ).
(وقد اختلف المؤرخون في بناة الكعبة ، إلا أن القول الثابت الذي لا خلاف فيه لقوة أدلته هو القول بأن بناة البيت ثلاثة، إبراهيم الخليل، قريش، فابن الزبير، والحجاج، ذلك أن بناء الخليل ثابت بالقرآن، وبناء قريش ثابت بالحديث الصحيح الذي رواه البخاري، وبناء ابن الزبير والحجاج أجمع عليه المفسرون والمؤرخون، ويمكن أن نقول: أن هؤلاء الأحد عشر( ) هم جملة من تعرض للكعبة على الإطلاق بيد إصلاح أو تعمير أو تجديد أو ترميم، وكان لهم بهذا شرف عظيم تجاه ما قدموه لبيت الله من قليل أو كثير( ).
إضافة إلى ذلك فإن هؤلاء هم الذين بنوها بناء حقيقياً من أساسها، فالحجاج مثلاً هدم ما زاده ابن الزبير وأعاده إلى بناء قريش، ولم يبن على الأساس.
مراحل البناء التاريخية :
وقد بني بيت الله على أصح المصادر إحدى عشرة مرة، ولكن الاختلاف فيما من بناها بناءً كاملاً من الأساس، ولم يثبت عبد المطلب بن هاشم جد النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الثاني عشر الذي جاء ذكره في تاريخ الكعبة المعظمة، كما تم ترميمه عدة مرات، ومنها ما تم في العهد السعودي.
بناء إبراهيم وإسماعيل:
وسنبدأ من بناء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، فهو ثابت بالقطع من القرآن الكريم وقد (بنى إبراهيم عليه السلام الكعبة بحجارة بعضها فوق بعض من غير طين وجص، وحفر في باطنها على يمين من دخلها حفرة عميقة كالبئر يلقى فيها ما يهدى إليها تكون خزانة لها، وكان عمقها ثلاثة أذرع كما ذكره الأزرقي، ولم يجعل للكعبة سقفاً، ولا باباً من خشب أو غيره، وإنما ترك لمكان الباب فتحة في جدارها الشرقي للدلالة على وجه البيت).
وقد كان بناء إبراهيم للكعبة من خمسة جبال، من طور سيناء، وطور زيتاء، ولبنان، والجودي، وحراء، وكانت الملائكة تأتيه بالحجارة من تلك الجبال، فكان هو يبني وإسماعيل يناوله الحجارة، فبناها على أساس آدم، وهذا الأساس حجارته من جبل حراء، وقد جعل إبراهيم عليه السلام للكعبة ركنين فقط، الركن الأسود، الركن اليماني ولم يجعل لها أركاناً من جهة الحجر بل جعلها مدورة على هيئة نصف دائرة كجدار الحجر، وجعل الباب لاصقاً بالأرض وغير مبوب، وجعل ارتفاعها من الأرض إلى السماء تسعة أذرع، وجعل عرض جدار وجهها اثنين وثلاثين ذراعاً، وعرض الجدار المقابل واحداً وثلاثين ذراعاً، وعرض الجدار الذي فيه الميزاب اثنين وعشرين ذراعاً، وعرض الجدار المقابل له عشرين ذراعاً( ).
بناء قصي:
ويقول ابن إسحاق: كان قصي أول بني كلاب أصاب ملكاً أطاع له به قومه، وكانت له الحجابة والسقاية والرفادة والندوة واللواء فحاز شرف مكة كله، وقصي هو الجد الرابع للنبي ص( )، وبناء قصي هو البناء السابع، وقد جد في بناء الكعبة، وجمع النفقة ثم هدمها، وبناها بنياناً لم يبن أحد ممن بناه مثله وقد سقفها بخشب الدوم الجيد وبجريد النخل وبناها على خمسة وعشرين ذراعاً( ).
بناء قريش:
وهو البناء التاسع للكعبة المشرفة حسب تاريخ الكعبة المعظمة، وذكر أن البناء الثامن كان لجد النبي صلى الله عليه وسلم عبد المطلب، وهو مسنود على رواية الفاسي في (شفاء الغرام) لكنه غير ثابت، فلم يرد في المراجع والمصادر التاريخية لا صراحة ولا تلميحاً أن عبد المطلب بنى الكعبة المعظمة( ).
وأما بناء قريش فهو ثابت، وقد جاء في البخاري ومسلم عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: {سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجدر، أمن البيت هو، قال: نعم، قلت فما لهم لم يدخلوه في البيت، قال: ألم ترى قومك قصرت بهم النفقة، قلت: فما شأن بابه مرتفعاً، قال: فعل ذلك قومك ليدخلوا من شاءوا ويمنعوا من شاءوا، ولولا أن قومك حديث عهدهم بجاهلية فأخاف أن تنكر قلوبهم أن أدخل الجدر في البيت وأن ألصق بابه الأرض}( ).
وفي سيرة ابن هشام عن ابن إسحاق أنه قال: (فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خمساً وثلاثين سنة اجتمعت قريش لبنيان الكعبة، وكانوا يهمون بذلك ليسقفوها، ويهابون هدمها، وإنما كانت رضماً فوق القامة، فأرادوا رفعها وتسقيفها، وذلك أن نفراً سرقوا كنزاً للكعبة، وإنما كان يكون في بئر في جوف الكعبة)( ).
وبعد أن تحدث ابن هشام عن السفينة التي جنحت إلى جدة وتحطمت، فأخذت قريش خشبها لتسقيف الكعبة، وبعد أن تحدث عن الحية التي تخرج من بئر الكعبة وقد خطفها طائر، قال ابن هشام: (فلما أجمعوا أمرهم في هدمها وبنائها، قام أبو وهب بن عمرو بن عائذ المخزومي فتناول من الكعبة حجراً فوثب من يده حتى رجع إلى موضعه، فقال: يا معشر قريش، لا تدخلوا في بنائها من كسبكم إلا طيباً لا يدخل فيه مهر بغي، ولا بيع ربا، ولا مظلمة أحد من الناس).
(ثم إن قريشاً تجزأت الكعبة، فكان شق الباب لبني عبد مناف وزهرة، وكان بين الركن الأسود والركن اليماني لبني مخزوم وقبائل من قريش انضموا إليهم، وكان ظهر الكعبة لبني جمح وسهم ابني عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي، وكان شق الحجر لبني عبد الدار بني قصي ولبني أسد بن عبد العزى بن قصي ولبني عدي بن كعب بن لؤي).
(قال ابن إسحاق: ثم إن القبائل من قريش جمعت حجارة لبنائها كل قبيلة تجمع على حدة، ثم بنوها حتى بلغ البنيان موضع الركن، فاختصموا فيه، كل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه دون الأخرى، حتى تحاوروا وتخالفوا وأعدوا للقتال).
(فمكثت قريش على ذلك أربع ليال أو خمساً، ثم إنهم اجتمعوا حولها وتشاوروا وتناصفوا، فزعم بعض أهل الرواية أن أبا أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم، وكان عامئذ أسن قريش كلها، فقال: يا معشر قريش اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول من يدخل من باب هذا المسجد يقضي بينكم فيه، ففعلوا فكان أول داخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأوه قالوا: هذا الأمين، رضينا، هذا محمد، فلما انتهى إليهم وأخبروه بالخبر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هلم إلي ثوباً، فأتى به، فأخذ الركن فوضعه فيه بيده، ثم قال: لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب، ثم ارفعوه جميعاً، ففعلوا، حتى إذا بلغوا به موضعه وضعه هو بيده ثم بنى عليه)( ). (فبنوا حتى رفعوا أربعة أذرع وشبراً، ثم كبسوها، ووضعوا بابها مرتفعاً على هذا الذرع، ورفعوها مدماكاً من خشب ومدماكاً من حجارة، وكان طولها تسعة أذرع فاستقصروا طولها وأرادوا الزيادة فيها فبنوها، وزادوا في طولها تسعة أذرع، وكرهوا أن يكون بغير سقف فلما بلغوا السقف قال لهم (باقوم) الرومي: إن تحبوا أن تجعلوا سقفها مكيساً أو سطحاً فعلت، قالوا: بل ابن بيت ربنا سطحاً، فبنوه سطحاً، وجعلوا فيه ست دعائم في صفين، كل صف ثلاث دعائم، من الشق الشامي الذي يلي الحجر، إلى الشق اليماني، وجعلوا ارتفاعها من خارجها من الأرض إلى أعلاها ثمان عشرة ذراعاً، وكانت قبل ذلك تسع أذرع، وبنوها من أعلاها إلى أسفلها فكانت خمسة عشر مدماكاً( )، من الخشب، وستة عشر مدماكاً من الحجارة، وجعلوا ميزابها يسكب في الحجر، وجعلوا أدرجة من خشب في بطنها في الركن الشامي، وجعلوا لها باباً واحداً وكان يغلق ويفتح)( ).
بناء عبد الله بن الزبير:
يعتبر صاحب تاريخ الكعبة المعظمة أن رواية الحافظ نجم الدين بن فهد في كتابه (إتحاف الورى) أوضح وأجمع ما ورد في عموم الروايات التي جاءت في عمارة ابن الزبير رضي الله عنهما، وفي نفس الوقت لا تخالف الروايات الأخرى، وسنقدم جزءاً منها بما يكفي لإيضاح بناء عبد الله بن الزبير، دون الدخول في تفاصيل تتعلق بالخلافات، وأسباب تعرض الكعبة للمنجنيق مما أدى إلى تعرضها للنيران، فحصرنا هذه الرواية فيما يخص البناء فقط، جاء في رواية الحافظ: (ودعا ابن الزبير وجوه الناس وأشرافهم فشاورهم في هدم الكعبة، فأشار عليه ناس كثير بهدمها، ومنهم جابر بن عبد الله، وكان جاء معتمراً، وأبى أكثر الناس هدمها، وكان أشدهم عبد الله بن العباس وقال: دعها على ما أقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإني أخشى أن يأتي بعدك من يهدمها، ثم يأتي بعد ذلك آخر فلا تزال أبداً تهدم وتبنى، فتذهب حرمة هذا البيت من قلوبهم، ويتهاون الناس بحرمتها، ولا أحب ذلك، ولكن أرقعها).
(فقال ابن الزبير: والله ما يرضى أحدكم أن يرقع بيت أبيه وأمه فكيف أرقع بيت الله سبحانه، وأنا أنظر إليه ينقض من أعلاه إلى أسفله، حتى أن الحمام ليقع فتتناثر حجارته، فأقام أياماً يشاور وينظر ثم أجمع على هدمه، وكان يحب أن يكون هو الذي يرده على ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم على قواعد إبراهيم، وعلى ما وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها، فلما اجتمع له ما يحتاج إليه من آلات العمارة، وأراد هدم الكعبة عمد إلى ما كان في الكعبة من حلية وثياب وطيب فوضعه في خزانة الكعبة، في دار شيبة بن عثمان، حتى أعاد بناءها، ولما أراد ابن الزبير هدم الكعبة أخرج أهل مكة منها، بعضهم إلى الطائف، وبعضهم إلى منى، فرقاً( ) أن ينزل عليهم عذاب لهدمها، ولم يرجعوا إلى مكة حتى أخذ في بنائها، فلما هدم ابن الزبير الكعبة وسواها بالأرض كشف أساس إبراهيم( )، فوجده داخلاً في الحجر نحواً من ستة أذرع وشبراً، كأنها أعناق الإبل آخذ بعضها ببعض، فإذا تحرك الحجر من القواعد تحركت الأركان كلها، فدعى ابن الزبير خمسين رجلاً من وجوه الناس وأشرافهم وأشهدهم على ذلك الأساس، ثم وضع البناء على ذلك الأساس، ووضع حداث باب الكعبة على مدماك على الشاذروان الملاصق بالأرض، وجعل الباب الآخر بإزائه في ظهر الكعبة مقابله، وجعل عتبته على الحجر الأخضر الطويل الذي في الشاذروان الذي في ظهر الكعبة قريباً من الركن اليماني.
(فلما بلغ ابن الزبير بالبناء ثمانية عشر ذراعاً في السماء، وكان هذا طولها يوم هدمها فقصرت لأجل الزيادة التي زادها من الحجر فيها، فقال ابن الزبير: قد كانت قبل قريش تسعة أذرع حتى زادت قريش فيها تسعة أذرع طولاً في السماء، فأنا أزيد فيها تسعة أذرع أخرى، فبناها سبعة وعشرين ذراعاً في السماء، وهي سبعة وعشرون مدماكاً، وعرض جدارها ذراعان، وجعل فيها ثلاث دعائم في صف واحد، وأرسل ابن الزبير إلى صنعاء فأتى منها برخام يقال له الباق، فجعله في الروزن التي في سقفها للضوء، وبناها بالرصاص المخلوط بالورس، وكان باب الكعبة قبل بناء ابن الزبير مصراعاً واحداً، فجعل لها مصراعين طولهما أحد عشر ذراعاً من الأرض إلى منتهى أعلاها، وجعل الباب الآخر الذي في ظهرها بإزائه على الشاذروان الذي على الأساس مثله، وجعل لها درجة في بطنها في الركن الشامي، من خشب معرجة تصعد فيها إلى ظهرها، وجعل في سطحها ميزاباً يسكب في الحجر( )