باب تحريم الغيبة والأمر بحفظ اللسان
قال الله تعالى: {ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم} [الحجرات (12) ] . ---------------- في هذه الآية: النهي عن الغيبة، وهي ذكرك المسلم بما يكره، وإن كان ذلك فيه. قال ابن كثير: والغيبة محرمة بالإجماع، ولا يستثنى من ذلك إلا ما رجحت مصلحته، كما في الجرح والتعديل والنصيحة. كقوله - صلى الله عليه وسلم - لما استأذن عليه ذلك الرجل الفاجر: «ائذنوا له بئس أخو العشيرة» . وكقوله - صلى الله عليه وسلم - لفاطمة بنت قيس رضي الله عنها، وقد خطبها معاوية، وأبو الجهم: «أما معاوية فصعلوك، وأما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه» ، وكذا ما جرى مجرى ذلك، ثم بقيتها على التحريم الشديد، وقد ورد فيها الزجر الأكيد، ولهذا شبهها تبارك وتعالى بأكل اللحم من الإنسان الميت، كما قال عز وجل: {أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه} ... [الحجرات (12) ] ، أي: كما تكرهون هذا طبعا، فاكرهوا ذاك شرعا، فإن عقوبته أشد من هذا. وهذا من التنفير عنها، والتحذير منها. كما قال - صلى الله عليه وسلم - في العائد في هبته: «كالكلب يقيء ثم يرجع في قيئه» . وقد قال: «ليس منا مثل السوء» .
قال تعالى: {ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا} [الإسراء (36) ] . ---------------- قال ابن عباس: يقول: لا تقل. وقال قتادة: لا تقل رأيت ولم تر، وسمعت ولم تسمع، وعلمت ولم تعلم. فإن الله تعالى سائلك عن ذلك كله.
قال تعالى: {ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد} [ق: 18] . ---------------- أي: ما يتكلم من كلام إلا وله حافظ يكتبه. قال ابن عباس: ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد، قال: يكتب كلما يتكلم به من خير أو شر حتى إنه ليكتب قوله: أكلت. شربت. ذهبت. جئت. رأيت. حتى إذ كان يوم الخميس عرض قوله وعمله، فأقر منه ما كان فيه من خير أو شر، وألقي سائره، وذلك قوله تعالى: {يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب} [الرعد (39) ] . وقال الحسن البصري: وتلا هذه الآية: {عن اليمين وعن الشمال قعيد} [ق (17) ] ، يا ابن آدم، بسطت لك صحيفة، ووكل بك ملكان كريمان، أحدهما عن يمينك، والآخر عن شمالك. أما الذي عن يمينك فيحفظ حسناتك، وأما الذي عن يسارك فيحفظ سيآتك. فاعمل ما شئت، أقلل أو أكثر، حتى إذا مت طويت صحيفتك، وجعلت في عنقك معك في قبرك، حتى تخرج يوم القيامة. فعند ذلك يقول تعالى {وكل إنسان ألزمناه طآئره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا * اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا} [الإسراء (13، 14) ] ، ثم يقول: عدل - والله - من جعلك حسيب نفسك. اعلم أنه ينبغي لكل مكلف أن يحفظ لسانه عن جميع الكلام إلا كلاما ظهرت فيه المصلحة، ومتى استوى الكلام وتركه في المصلحة، فالسنة الإمساك عنه، لأنه قد ينجر الكلام المباح إلى حرام أو مكروه، وذلك كثير في العادة، والسلامة لا يعدلها شيء. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» .
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت» . متفق عليه. ---------------- وهذا الحديث صريح في أنه ينبغي أن لا يتكلم إلا إذا كان الكلام خيرا، وهو الذي ظهرت مصلحته، ومتى شك في ظهور المصلحة، فلا يتكلم. يعني: من كان يؤمن الإيمان الكامل، المنجي من عذاب الله، الموصل إلى رضوان الله، فليقل خيرا أو ليصمت؛ لأن من آمن بالله حق إيمانه خاف وعيده، ورجا ثوابه، واجتهد في فعل ما أمر به، وترك ما نهي عنه.
عن أبي موسى - رضي الله عنه - قال: قلت: يا رسول الله أي المسلمين أفضل؟ قال: «من سلم المسلمون من لسانه ويده» . متفق عليه. ---------------- هذا الحديث: أن من سلم المسلمون من أذاه، أنه من أفضلهم، وخص اللسان واليد بالذكر، لغلبة صدور الأمر عنهما، فالقول باللسان، والفعل باليد.
عن سهل بن سعد، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة» . متفق عليه. ---------------- في هذا الحديث: أن من حفظ لسانه وفرجه عن الحرام دخل الجنة.
عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزل بها إلى النار أبعد مما بين المشرق والمغرب» . متفق عليه. ---------------- ومعنى: «يتبين» يتفكر أنها خير أم لا. في هذا الحديث: أنه ينبغي للإنسان أن لا يكثر الكلام، وأن لا يتكلم إلا فيما يعنيه، وأن يحترز من الكلام حين الغضب؛ لأنه يتكلم عند الغضب بما يضره في دينه ودنياه. وفي حديث أبي ذر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يروي عن صحف إبراهيم عليه السلام: «وعلى العاقل أن يكون بصيرا بزمانه، مقبلا على شأنه، حافظا للسانه ومن حسب كلامه من عمله، قل كلامه إلا فيما يعنيه» .
عن أبي هريرة - رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى ما يلقي لها بالا يرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى لا يلقي لها بالا يهوي بها في جهنم» . رواه البخاري. ---------------- قوله: «ما يلقى لها بالا» ، أي، لا يصغى إليها، ولا يجعل قلبه نحوها.
عن أبي عبد الرحمن بلال بن الحارث المزني - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله له بها رضوانه إلى يوم يلقاه، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله له بها سخطه إلى يوم يلقاه» . رواه مالك في الموطأ، والترمذي، وقال: ... (حديث حسن صحيح) . ---------------- قال ابن عبد البر: لا أعلم خلافا في قوله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث: «إن الرجل ليتكلم بالكلمة» . إنها الكلمة عند السلطان الجائر الظالم يرضيه بها فيسخط الله عز وجل، ويزين له باطلا يريده من إراقة دم، أو ظلم مسلم ونحوه مما ينحط به في حبل هواه، فيبعد من الله وينال سخطه، وكذا الكلمة التي يرضى بها الله عز وجل عند السلطان ليصرفه عن هواه، ويكفه عن معصيته التي يريدها يبلغ بها أيضا رضوانا من الله لا يحتبسه.
عن سفيان بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: قلت: يا رسول الله حدثني بأمر أعتصم به قال: «قل: ربي الله ثم استقم» قلت: يا رسول الله، ما أخوف ما تخاف علي؟ فأخذ بلسان نفسه، ثم قال: «هذا» . رواه الترمذي، وقال: (حديث حسن صحيح) . ---------------- الاستقامة: هي امتثال الأومر واجتناب المناهي. والحديث مقتبس من مشكاة قوله تعالى: {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا} [فصلت (30) ] . وفيه: أن أعظم ما يهلك الإنسان لسانه. قال العاقولي: أسند الخوف إلى اللسان لأنه زمام الإنسان.
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله؛ فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله تعالى قسوة للقلب! وإن أبعد الناس من الله تعالى القلب القاسي» . رواه الترمذي. والحديث ضعفه الشيخ الألباني. ---------------- الذكر: هو الثناء على الله تعالى، ودعاؤه، و (أشرف الذكر) : القرآن. وقسوة القلب: غلظة وعدم تأثره بالمواعظ، فلا يأتمر بخير ولا ينزجر عن شر.
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من وقاه الله شر ما بين لحييه، وشر ما بين رجليه دخل الجنة» . رواه الترمذي، وقال: (حديث حسن صحيح) . ---------------- أي: من حبس لسانه عن الشر، وأجراه في الخير، وحفظ فرجه عن الحرام دخل الجنة.
عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - قال: قلت: يا رسول الله ما النجاة؟ قال: «أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك» . رواه الترمذي، وقال: (حديث حسن) . ---------------- قيل: هذا الجواب من أسلوب الحكيم، فإن السؤال عن حقيقة النجاة والجواب بسببها لأنه أهم.
عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا أصبح ابن آدم، فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان، تقول: اتق الله فينا، فإنما نحن بك؛ فإن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا» . رواه الترمذي. ---------------- معنى: «تكفر اللسان» : أي تذل وتخضع له. قوله: «فإنما نحن بك» ، أي: مجازون بما يصدر عنك. قال الطيبي: الجمع بين هذا الحديث وحديث: «إن في الجسد مضغة» . أن اللسان خليفة القلب وترجمانه، وأن الإنسان عبارة عن القلب واللسان، والمرء بأصغريه.
عن معاذ - رضي الله عنه - قال: قلت: يا رسول الله، أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار؟ قال: «لقد سألت عن عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله تعالى عليه: تعبد الله لا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت» ثم قال: «ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل من جوف الليل» ثم تلا: {تتجافى جنوبهم عن المضاجع} حتى بلغ {يعملون} [السجدة (16، 17) ] ثم قال: «ألا أخبرك برأس الأمر، وعموده، وذروة سنامه» قلت: بلى يا رسول الله، قال: «رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد» ثم قال: «ألا أخبرك بملاك ذلك كله!» قلت: بلى يا رسول الله، فأخذ بلسانه قال: «كف عليك هذا» قلت: يا رسول الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: «ثكلتك أمك! وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم؟» . رواه الترمذي، وقال: (حديث حسن صحيح) ، وقد سبق شرحه في باب قبل هذا. ---------------- في هذا الحديث: دليل على أن الأعمال سبب لدخول الجنة. وفيه: إشارة إلى أن التوفيق كله بيد الله عز وجل، ولما رتب دخول الجنة على واجبات الإسلام، دله بعد ذلك على أبواب الخير من النوافل. وفيه: دليل على أن الجهاد أفضل الأعمال بعد الفرائض، وأن كف اللسان إلا عن الخير هو أصل الخير.
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أتدرون ما الغيبة» ؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «ذكرك أخاك بما يكره» قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: «إن كان فيه ما تقول، فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته» . رواه مسلم. ---------------- في هذا الحديث: أن حقيقة الغيبة ذكر الإنسان بما فيه من المكروه.
عن أبي بكرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في خطبته يوم النحر بمنى في حجة الوداع: «إن دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم، حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا هل بلغت» . متفق عليه. ---------------- في هذا الحديث: تحريم التعرض لدم مسلم، أو ماله، أو عرضه، بما لم يأذن به الشارع.
عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قلت للنبي - صلى الله عليه وسلم -: حسبك من صفية كذا وكذا. قال بعض الرواة: تعني قصيرة، فقال: «لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته» ! قالت: وحكيت له إنسانا فقال: «ما أحب أني حكيت إنسانا وإن لي كذا وكذا» . رواه أبو داود والترمذي، وقال: (حديث حسن صحيح) ---------------- ومعنى: «مزجته» خالطته مخالطة يتغير بها طعمه أو ريحه لشدة نتنها وقبحها. وهذا من أبلغ الزواجر عن الغيبة، قال الله تعالى: {وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى} . [النجم (3، 4) ] . قولها: وحكيت له إنسانا، أي: حكت له بالفعل حركة إنسان يكرهها. قال العاقولي: قوله: «ما أحب أني حكيت إنسانا» ، أي: فعلت مثل فعله. يقال: حكاه وحاكاه. وأكثر ما استعمل المحاكاة في القبيح، وهو في الغيبة المحرمة، كأن يمشي متعارجا أو مطأطئا، وغير ذلك من الهيئات يحكي بذلك صاحبها.
عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون بها وجوههم وصدورهم فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس، ويقعون في أعراضهم!» . رواه أبو داود. ---------------- فائدة: روى الإمام أحمد أنه قيل: يا رسول الله، إن فلانة وفلانة صائمتان، وققد بلغتا الجهد. فقال: «ادعهما» . فقال لإحداهما: ... «قيئي» . فقاءت لحما، ودما عبيطا، وقيحا. والأخرى مثل ذلك. ثم قال: «صامتا عما أحل لله، وأفطرتا على ما حرم الله عليهما، أتت إحداهما الأخرى فلم يزالا يأكلان لحوم الناس حتى امتلأت أجوافهما قيحا» .
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «كل المسلم على المسلم حرام: دمه وعرضه وماله» . رواه مسلم. ---------------- في هذا الحديث: تغليظ تحريم دم المسلم، وتحريم عرضه، وتحريمم ماله.