السنتلي ذو الـ 94 عاماً يروي ذكريات الحج قديماًعلى الرُّغم من عمره الذي تجاوز الـ 94عاماً، إلا أنَّ الحاج عبدالله السنتلي لا يزال يحتفظ في ذاكرته المتقدة أيام الحج مشياً على الأقدام وعلى الجمال، ويصفها بالأيام الهنيئة السعيدة على الرُّغم من مشاقها وصعوبة الحج فيها، الحقيقة لا مقارنة تذكر بين الحج في زماننا الحاضر والحج في أزمنة مضت، إذ كان الحاج في الزمان الماضي يلقى من المشقة والتعب والجهد ما الله به عليم، حتى كان يقال لمن نوى الحج في ذلك الزمن: "الذاهب في طريق الحج مفقود، والعائد منه مولود"، كتعبير عمَّا يلاقيه الحاج من الخوف وفقدان الأمن، وما يجده من صعوبات جمَّة في طريقه للقيام برحلة العمر من عذاب السفر، إذ كان حجاج بيت الله يتعرَّضون للكثير من الكد والمشقَّة، سواءً من حر الصيف أو برد الشتاء أو جفاف الماء في الصحاري التي يسلكونها، إلى جانب ما قد يداهمهم فيها من السيول واللصوص وقطَّاع الطُّرق، بل تصل بعض الصُّعوبات إلى فقدان النفس والموت قبل الوصول وأداء الفريضة العظيمة.
شاهد على ذلك العصر
يبلغ الحاج عبد الله بن عبدالرحمن السنتلي من العمر 94 عاماً، وهو من مواليد 1340هـ من أهالي القصيم، ومن الذين شهدوا أداء فريضة الحج سيراً على الأقدام أو ركوباً على الجمال، ويعدّ من النوادر الذين لا يزالون على قيد الحياة ممن أدُّوها في زمن الملك عبد العزيز -رحمه الله-، ويستذكر تلك الرحلات إلى الحج والعمرة، وضم حديثه معنا الكثير من الحنين والعشق لتلك الأيام التي خلت، حيث يقول: "إنَّ هناك فرقاً كبيراً بين الحج في هذه الأيام والحج قديماً، إذ كان الحج يأخذ معنا من القصيم إلى مكَّة مسافة خمسة عشر يوماً ذهاباً وخمسة عشر يوماً إياباً، إضافةً إلى الأيام التي نقضيها في مكة، وهناك بعض الناس تأخذ الطَّريق معهم عشرين يوماً ذهاباً ومثلها إياباً".
الرجال يمشون والنساء على الجمال
ويشير إلى أنَّ والده ذهب إلى الحج مع عمته على البعير، إذ كان أبوه يمشي، أمَّا عمته فتركب على البعير، ويضيف: "إنَّ الحج في القديم لم يكن يكلِّف من المال شيئاً؛ لأنَّ كل حاج يأخذ معه ما يحتاجه من بيته من طحين وتمر، إذ كان جل أكلهم من هذين الصنفين، فيقومون بخبز الطحين في الطَّريق وأكله، إضافةً إلى ما يتمكَّنون من صيده من الطرائد البريَّة في الطريق إن وُجد، وكان الرجال يمشون طوال الطَّريق، أمَّا النِّساء فكنَّ يركبن على الجمال، وبعضهم يضع على بعيره محمل الهودج، وكانوا يسيرون ليلاً في الصيف، وفي وقت الضحى يتركون الإبل ترعى وهم يوقدون نارهم ويتناولون قهوتهم، ثم يأخذون قسطاً من الراحة، حيث يكون للرجال جهة يجلسون بها، والنساء يجلسن في جهة أخرى، وكان بعض الحجيج يرتاحون من سفرهم عند منتصف الليل، فيتطارح الحجاج من إبلهم، وينامون في أماكنهم على الأرض قبل الفجر، وعند الفجر هناك استراحة ثانية للصلاة، ثم يواصلون السير بلا توقف حتى استراحة الظهر وهكذا، والويل لمن ينام ويتأخَّر فقد يموت من العطش أو السباع أو الضياع، ولكن عند وصولهم إلى محطَّة رئيسة للحجيج، كانوا يرتاحون ويأخذون ما يحتاجونه منها لطريقهم، ويستمرون على هذا الحال حتى يصلوا إلى مكة المكرمة".
مواكب ومجموعات
ويكمل حديثه قائلاً: "لم يكن أحد يتوه عن الطَّريق؛ لأنَّ الجميع يمشون مع بعضهم في مواكب ومجموعات، وكان هذا بمثابة حماية لهم من قطَّاع الطُّرق ومن لصوص البراري، ولم يكن أحد منهم يجرأ على المشي لوحده، وكانوا دائمًا بجانب بعضهم، وكان هذا في زمن الملك عبد العزيز -رحمه الله-"، مبيناً أنَّ مكة كانت بسيطة جدًا في ذلك الوقت، فلا تتوافَّر فيها الفنادق الكبيرة ولا الطُّرق الواسعة، وكانت كلها عبارة عن خيام، والحجاج ينامون في هذه الخيام التي أحضروها معهم، وكان كلُّ شيء متوافراً في مكة ورخيص الثمن، إذ لا يتجاوز ثمن الذبيحة عشرين ريالاً أو خمسة وعشرين ريالاً.
ويقول: "كان موسم الحج فرصة لنتعرَّف على إخواننا من البلاد الإسلاميَّة الأخرى من شرق آسيا والهند وبلاد العرب وأفريقيا".
الحياة كانت أبسط
ويشير الحاج السنتلي إلى أنَّهم كانوا يحرمون من الميقات، ويضيف: "إنَّ الحياة في ذلك الوقت كانت أبسط، وكانت قلوب الناس بيضاء وصافية تجاه بعضهم البعض، وكانت روح التعاون والرحمة تسود بينهم، أمَّا الآن فقد أصبح التطوُّر والسرعة سبباً في ابتعاد الناس عن بعضهم، وكان من أهم ما يميِّز تلك المرحلة: مساعدة الحجيج لبعضهم، وقلَّة تكلفة الحج، والعمل الجماعيّ، ولكن حالياً أصبح البعض للأسف يستغلون فترة الحج والعمرة لجني الأموال برفع الأسعار".
موضحاً أنَّ أهازيج الحج الشعبيَّة الجميلة التي كان يرددها الحجاج في مثل هذه الأيام من الموسم من الأشياء التي كانت سائدة في تلك الفترة، كما أنَّ النساء كنَّ يجتمعن في منزل الحاج ليلاً لما يسمَّى "بالوداع"، وهو عبارة عن أناشيد وأهازيج شعبيَّة تؤدِّيها النساء المشاركات في "الوداع" وهنَّ جالسات من دون رقص، وذلك تعظيماً لجلال المناسبة.
وعن مراسيم عودة الحاج يقول: "قبل وصول الحاج بيوم أو يومين يرسل مبشراً يسمى "الصايح" ليبشِّر أهله بقرب وصوله، صائحاً بصوتٍ عالٍ : "الحاج فلان يسلِّم عليكم، ويبشِّركم بقرب الوصول"، ويستقبل أهل الحاج "الصايح" استقبالاً رائعاً وجميلاً، ويمدُّونه بالهدايا والأموال، ويذبحون له الذبائح، ويقدِّمون له البشارة، وهي عبارة عن هديَّة ثمينة مكافأة له على نقل البشارة السَّارة بوصول الحاج سالماً معافى من بيت الله الحرام".
زمن الراحة والاستقرار
ويضيف: "بلاشك أننا اليوم نعيش زمن الراحة والاستقرار، فالحاج لا تستغرق رحلته من أبعد مكان في العالم إلى المملكة أكثر من خمس عشرة ساعة، ليصل إلى مكة المكرمة معززاً مكرماً، ويجد فندقه ووسيلة نقله وكل وسائل الراحة قد خصصت له، بالإضافة للمأكل والمشرب، وبات الحاج ينهي مناسكه من دون تعب أو مشقَّة تذكر، ولكن رغم مشقَّة رحلات الحج قديماً، ورغم جهدها الجهيد، إلا أنَّ لها مذاقها الخاص".